القائمة الرئيسية

الصفحات


الدعوى الجنائية 

فالدعوى الجنائية هي التي تقرر مدى سلطة الدولة في عقاب المتهم، فبقدر ما تملك الدولة من حق موضوعي يتمثل في عقاب الجاني، فإنها تملك حقاً إجرائياً في مطالبة القضاء بتطبيق هذا الحق ضد المتهم باقتراف الجريمة، وبدون هذا الحق الإجرائي فإن الدولة لا تستطيع على الإطلاق ممارسة سلطتها في العقاب، في حين أن الأمر في القانون المدني ليس كذلك، فلصاحب الحق الحصول على حقه دون اللجوء إلى إقامة الدعوى ولا يلجأ إليها إلا في الحالات الاستثنائية، وتطبيقاً لـ (مبدأ العقوبة بغير دعوى جنائية) فإنه لا يمكن معاقبة المتهم قبل رفع الدعوى الجنائية أمام القضاء مما يؤدي إلى القول بأن الحق في الدعوى الجنائية أمراً تحتمه سلطة الدولة في العقاب(2). تعرف الدعوى الجنائية بأنها حق الدولة ممثلة في سلطة الاتهام في ملاحقة مرتكب الجريمة وتقديمه للقضاء لتوقيع الجزاء الجنائي عليه، وهي بهذا المعنى توجد منذ اللحظة التي تقع فيها الجريمة، ولا يتوقف وجودها على مباشرة أي إجراء فيها، ويستند هذا الرأي(3) على أن تقادمها يبدأ من هذا الوقت، ويعرفها البعض الآخر(4) "بأنها حق في حكم قضائي، أي في وسيلة الحماية، وليس الحصول على الحماية القضائية"، كما عرفت بأنها "المطالبة بالحق عن طريق القضاء"(5). وبما أن مبدأ الشرعية الإجرائية ينص على أن الأصل براءة المتهم، لذا فإن الهدف من الدعوى الجنائية يتحدد بالدفاع عن المصالح الأساسية في المجتمع، فمصلحة المجتمع تتحقق بضمان حقوق أفراده وحرياته دون أن تتحقق هذه المعاني بإدانة الأبرياء والمساس بالحريات وإهدارها، يضاف إلى ذلك أن سلطة العقاب لا تبلغ هدفها في إصلاح المحكوم عليه عن طريق إعادة دمجه وتكيفه مع أبناء مجتمعه ما لم يتم تطبيق هذا العقاب على المجرم الحقيقي، وهذا بدوره ما يوجب على الدعوى الجنائية بأن تبقى مقيدة بهدف الوصول إلى الحقيقة المتمثلة بتبرئة البريء ومعاقبة المجرم الحقيقي، لان السعي إلى ضمان حرية المتهم البريء وحقوقه هدف جوهري ينبغي أن تبقى الدعوى الجنائية قاصدة له، فإذا تهاوت أدلة الاتهام أثناء سير الدعوى، كان لزاماً على الادعاء العام (النيابة العامة) أن  تطالب بتبرئة المتهم، أو تفوض الرأي للمحكمة على أقل تقدير(6)، فالدعوى الجنائية هي المطالبة بالحق أمام القضاء، كما تعني الحق في الحصول على حكم بمضمون معين لمصلحة المجني عليه، وبهذا كان من حق المتضرر أن يحرك دعواه أمام القضاء للحصول على حكم لمصلحته. وما ينبغي التنبيه إليه هو أن الدعوى الجنائية ليست الخصومة الجنائية ذاتها فالأولى هي الطلب الموجه من الدولة (الادعاء العام) إلى القضاء الإقرار حقها في العقاب عن طريق إثبات وقوع الجريمة ونسبتها إلى متهم معين، أما الخصومة فتشمل هذا الطلب وجميع الإجراءات الجنائية المتخذة بعده حتى تنقضي بصدور حكم بات أو بغير ذلك من أسباب الانقضاء، وعلى هذا الأساس قد يتلاقى تحريك الدعوى الجنائية مع نشوء الخصومة الجنائية إذا كان التحريك ضد متهم معين، وقد يتم هذا التحريك قبل نشوء الخصومة إذا كان المتهم لا زال مجهولاً، وفي هذه الحالة تتحرك الدعوى الجنائية دون أن تكتمل الخصومة، وهذا التصور يقتصر على مرحلة التحقيق الابتدائي فقط، أما بصدد الانقضاء فإن الخصومة والدعوى ينقضيان في وقت واحد بصدور حكم بات أو بغير ذلك من أسباب الانقضاء(7). فالخصومة الجنائية تبدأ من وقت تحريك الدعوى الجنائية للمطالبة باقرار حق الدولة في العقاب في مواجهة شخص معين (المتهم)، لذا فإن الإجراءات التي تسبق تحريك الدعوى الجنائية لا يمكن عدها من إجراءات الخصومة الجنائية، حيث ثار البحث عما إذا كانت إجراءات جمع الاستدلال والتحقيق الابتدائي تعد من إجراءات الخصومة الجنائية أم أنها غير ذلك؟ فقد ذهب اتجاه(8) إلى أن الخصومة الجنائية تشمل سائر إجراءات اقتضاء حق الدولة في العقاب بما فيها إجراءات جمع الاستدلالات حرصاً منه على سحب الحماية  الجنائية للخصومة من تأثير النشر على مرحلة جمع الاستدلالات، ولكن هذا الرأي لا يقر به جانباً كبيراً من الفقه الجنائي(9)، لأن إجراءات الاستدلال التي يقوم بها مأموري الضبط القضائي لا تمثل تحريكاً للدعوى الجنائية وبالتالي جزء من الخصومة الجنائية، لأن تحريك الدعوى الجنائية لا يصدر في الأصل إلا من الجهة التي تملك ذلك نيابة عن المجتمع وهي الادعاء العام (النيابة العامة)، ومن جهة أخرى يتعين مباشرة الدعوى أمام جهة قضائية وكل ذلك لا يتوافر في إجراءات الاستدلال، فإجراءات الاستدلال تباشر استناداً للسلطة التنفيذية للدولة والتي تهدف إلى التحري عن الجرائم، فهي تختلف عن الإجراءات الجنائية التي تباشر من قبل سلطات الدعوى بناءاً على السلطة القضائية للدولة، ومع ذلك فقد خول القانون مأمور الضبط القضائي في أحوال استثنائية سلطة تحريك الدعوى الجنائية عن طريق مباشرة بعض إجراءات التحقيق وهي القبض والتفتيش.
أما الاتجاه الآخر(10) فيجعل من نطاق الخصومة الجنائية يشمل إلى جانب ذلك مرحلة التحقيق، لكون قاضي التحقيق يعد طرفاً قضائياً في الخصومة أي حكماً بين المتهم والمجني عليه أو من يمثله قانوناً ويستندون في ذلك إلى أن قرار قاضي التحقيق بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى يحوز حجية بصدد عدم جدية الادعاء، بينما قرار سلطة الادعاء بالحفظ لا يحوز حجية بهذا الصدد، كما يعتبر هذا الرأي أن التحقيق الذي تجريه السلطة الاتهامية في الجنايات يعد بمثابة درجة أولى من درجات التقاضي، وهو لازم قبل الإحالة إلى محكمة الجنايات، فهذا هو السبب في أن حكم محكمة الجنايات لا يقبل استئنافاً لا لكون قضاء الجنايات على درجة واحدة وإنما لأن المشرع يعتبر التحقيق في الجنايات بوجه خاص بمثابة درجة أولى من درجات التقاضي. وقد عارض هذا الرأي الدكتور عبد الفتاح الصيفي باعتباره موسعاً لنطاق الخصومة الجنائية(11)، ومن جانبنا نعتقد أنه يجب التمييز بين التحقيق الذي يقوم به أعضاء الضبط القضائي في الأحوال الاستثنائية(12)، فإجراءات هذا التحقيق يسري عليها حكم الاستدلالات كونها خارج نطاق الخصومة الجنائية لأن الدعوى الجنائية لم تحرك بعد، وبين التحقيق الذي يقوم به قاضي التحقيق أو المحقق أو الذي يباشره أعضاء الضبط القضائي بناءاً على انتداب سلطة التحقيق المختصة، حيث تعد إجراءات هذا التحقيق من ضمن إجراءات الخصومة على أساس أنه متى بدأت سلطة التحقيق سواء بنفسها أو بواسطة من تنتدبه في أداء واجبها تحركت الدعوى الجنائية ونشأت الخصومة الجنائية وأساس التفرقة بين النوعين من أعمال التحقيق هو تحريك الدعوى الجنائية، فكل إجراء من إجراءات التحقيق سبق ذلك يخرج من نطاق الخصومة، وكل إجراء تحقيقي نشأ مع تحريك الدعوى الجنائية يدخل في إطارها(13)، باستثناء التحقيق الذي يجري تجاه متهم مجهول لكون الخصومة لم تكتمل بعد لفقدان تحديد إحدى أطرافها. وبسبب عدم تمييز المشرع العراقي والمشرع المصري بين الخصومة والدعوى الجنائية لأن الخصومة هي استمرار لإجراءات الدعوى، كما أن رأي الفصل بين مفهوم الدعوى والخصومة محل نظر فقهي لا يمكن التعميم في إتباعه، فقد آثرنا إتباع الأسلوب الشائع وهو اعتبار الدعوى الجنائية تشمل الطلب المقدم من الجهات المختصة بذلك إلى القضاء، كما تشمل الحق في الحصول على حكم وما يستلزم الوصول إلى هذا الحكم من إجراءات جنائية (الخصومة).
___________________
1- للتفصيل في كل هذه الآراء ينظر:       Santoro، manuale.pag:130-134، Leno Istituzioni، v.1، P.19                                                                                                  أشار إليه د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، المجلد الأول، دار النهضة العربية، القاهرة، 1981، ص212.
2- ينظر: د. ممدوح خليل البحر، مبادئ قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان 1998، ص45.
3- ينظر: د. عوض محمد عوض، المبادئ العامة في قانون الإجراءات الجنائية، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1999، ص21.
4- ينظر: د. ممدوح خليل البحر، مبادئ قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان 1998ص45.
5- ينظر: د. رؤوف عبيد، مبادئ الإجراءات الجنائية في القانون المصري، ط12، مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة 1978، ص35.
6- ينظر: د. ممدوح خليل البحر، المرجع السابق، ص46.
7- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية، المجلد الاول ، دار النهضة العربية، القاهرة 1981، ص29-30.
8- ينظر: د. جمال الدين العطيفي، الحماية الجنائية للخصومة من تأثير النشر، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة 1964، ص149 وما بعدها، اشار إليه د. عبد الفتاح الصيفي، النظرية العامة للقاعدة الإجرائية الجنائية، دار المطبوعات الجامعية’، الإسكندرية، (بلا سنة طبع).، ص37.
9- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، نظرية البطلان في قانون الإجراءات الجنائية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1959، ص31-32، ولنفس المؤلف، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، المرجع السابق، ص30-31، د. ممدوح خليل البحر، المرجع السابق، ص43.
10- ينظر: د. سليمان عبد المنعم، د. جلال ثروت، أصول المحاكمات الجزائية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1996، ص348.
11- ينظر: د. عبد الفتاح الصيفي، النظرية العامة للقاعدة الإجرائية الجنائية، المرجع السابق، ص37.
12- ينظر: المواد (49-50) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971.
13- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، نظرية البطلان في قانون الاجراءات الجنائية ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة 1959، ص32.

تعليقات